مشاهد التوحيد
إنَّ منْ مشاهدِ التوحيدِ عند الأذيَّةِ ( استقبالِ الأذى من الناسِ ) أموراً :
أولُها مشهدُ العَفْوِ : وهو مشهدُ سلامةِ القلبِ ، وصفائهِ ونقائِه لمنْ آذاك ، وحبُّ الخيرِ وهي درجةٌ زائدةٌ . وإيصالُ الخَيْرِ والنَّفعِ له ، وهي درجة أعلى وأعظمُ ، فهي تبدأ بكظْمِ الغَيْظِ ، وهو : أنْ لا تُؤذي منْ آذاك ، ثمَّ العفو ، وهو أنْ تسامحهُ ، وأنْ تغفرَ له زلَّتهُ . والإحسانِ ، وهو : أنْ تبادله مكان الإساءةِ منه إحساناً منك ، ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ ، ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ .
وفي الأثرِ : (( إنَّ الله أمرني أنْ أصِلَ منْ قطعني ، وأنْ أعفو عمَّنْ ظلمنِي وأنْ أُعطي منْ حَرَمَنِي )) .
ومشهدُ القضاءِ : وهي أنْ تعلم أنه ما آذاك إلا بقضاءٍ من اللهِ وقَدَرٍ ، فإنَّ العبد سببٌ من الأسبابِ ، وأنَّ المقدر والقاضي هو اللهُ ، فتسلِّمَ وتُذْعن لمولاك .
ومشهدُ الكفارةِ : وهي أنَّ هذا الأذى كفارةٌ منْ ذنوبك وحطٌّ منْ سيئاتِك ، ومحوٌ لزلاّتِك ، ورفعةٌ لدرجاتِك ، ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ .
من الحكمةِ التي يؤتاها كثيرٌ من المؤمنين ، نَزْعُ فتيلِ العداوةِ ، ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ ، (( المسلمُ منْ سلِم المسلمون منْ لسانِه ويدهِ )) .
أيْ : أن تَلْقَى منْ آذاك بِبِشر وبكلمةٍ لينةٍ ، وبوجهٍ طليقٍ ، لتنزع منهُ أتون العداوةِ ، وتطفئ نار الخصومِة ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ .
كٌن ريِّق البِشْرِ إنَّ الحُرَّ شيمتُهُ
صحيفةٌ وعليها البِشْرُ عنوانُ
ومنْ مشاهدِ التوحيدِ في أذى منْ يؤذيك :
مشهدُ معرفةِ تقصيرِ النفسِ : وهو انَّ هذا لم يُسلَّطِ عليك إلا بذنوبٍ منك أنت ، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾
وهناك مشهدٌ عظيمٌ ، وهو مشهدٌ تحمدُ الله عليهِ وتشكرُه ، وهو : أنْ جعلك مظلوماً لا ظالماً .
وبعضُ السلفِ كان يقولُ : اللهمَّ اجعلْني مظلوماً لا ظالماً . وهذا كابنْيْ آدم ، إذ قال خيرُهما : ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
وهناك مشهدٌ لطيفٌ آخرُ ، وهو : مشهدُ الرحمةِ وهو : إن ترْحَمَ منْ آذاك ، فإنهُ يستحقُّ الرحمةَ ، فإنَّ إصراره على الأذى ، وجرأته على مجاهرةِ اللهِ بأذيةِ مسلمٍ : يستحقُّ أن ترقَّ لهُ ، وأنْ ترحَمَهُ ، وأنْ تنقذه من هذا ، (( انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً )) .
ولمَّا آذى مِسْطَحٌ أبا بكرٍ في عِرْضِهِ وفي ابنتِهِ عائشة ، حلف أبو بكرٍ لا ينفقُ على مسطحٍ ، وكان فقيراً ينفقُ عليه أبو بكرٍ ، فأنزل اللهُ : ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ . قال أبو بكرٍ : بلى أُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي . فأعاد له النفقة وعفا عنهُ .
وقال عيينهُ بنُ حِصْنٍ لعمر : هيهِ يا عمرُ ؟ والله ما تعطينا الجَزْلَ ، ولا تحكمُ فينا بالعدْلِ . فهمّ به عمرُ ، فقال الحرُّ بنُ قيس : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الله يقول : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ ، قال : فواللهِ ما جاوزها عمرُ ، وكان وقَّفاً عند كتابِ اللهِ .
وقال يوسُفُ إخوتِهِ : ﴿ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ .
وأعلنها في الملأِ فيمنْ آذاهُ وطرده وحاربه منْ كفارِ قريش ، قال : (( اذهبُوا فأنتمُ الطلقاءُ )) قالها يوم الفتحِ ، وفيِ الحديثِ : (( ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسه عندَ الغضبِ )) .
قال ابنُ المباركِ :
إذا صاحبت قوماً أهل وُدٍّ
فكْن لهمُ كذي الرَّحِمِ الشفيقِ
ولا تأخذْ بزلَّةِ كلِّ قومٍ
فتبقى في الزمانِ بلا رفيقِ
قال بعضُهم : موجودٌ في الإنجيل : اغفرْ لمنْ أخطأ عليك مرةً سبع مراتٍ ﴿ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾
أيْ : منْ أخطأ عليك مرةً فكرِّرْ عليه العَفْوَ سبع مراتٍ ، ليسلم لك دينُك وعِرْضُك ، ويرتاح قلبُك ، فإنَّ القَصَاصَ منْ أعصابِك ومنْ دمِك ، ومنْ نومِك ومنْ راحتِك ومنْ عِرضِك ، وليس من الآخرين .
قال الهنودُ في مثلٍ لهم : « الذي يقهرُ نفسه : أشجعُ من الذي يفتحُ مدينةً » . ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ﴾ .
**********************************