الصِّحَّةُ والفراغُ
ينبغي ألا تضيِّع صِحَّة جسمِك ، وفراغ وقتِك ، بالتقصيرِ في طاعةِ ربِّك ، والثِّقةِ بسالفِ عمِلك ، فاجعلْ الاجتهاد غنيمة صحَّتِك ، والعمل فرصة فراغِك ، فليس كلُّ الزمانِ مستعداً ولا ما فات مستدركاً ، وللفراغِ زيْغٌ أو ندمٌ ، وللخْلوةِ مَيْلٌ أو أسفٌ .
وقال عمرُ بنُ الخطابِ : الراحةُ للرجالِ غفْلةٌ ، وللنساءِ غُلْمةٌ .
وقال بزرجمهرُ : إنْ يكنِ الشغلُ مَجْهَدةً ، فالفراغُ مفْسدَةٌ .
وقال بعضُ الحكماءِ : إيَّاكمْ والخلواتِ ، فإنها تُفسدُ العقول ، وتعقِدُ المحلول .
وقال بعضُ البلغاءِ : لا تمضِ يومك في غير منفعةٍ ، ولا تضعْ مالك في غيْر صنيعةٍ ، فالعمرُ أقصرُ منْ ينفَدَ في غيرِ المنافعِ ، والمالُ أقلُّ منْ أنْ يُصرف في غيرِ الصانع ، والعاقلُ أجلُّ منْ أنْ يُفني أيامه فيما لا يعودُ عليه نفعُه وخيرهُ ، ويُنفق أموالهُ فيما لا يحصُل له ثوابُه وأجْرُه .
وأبلغُ منْ ذلك قولُ عيس ابن مريم ، على نبينا وعليه السلامُ : البرُّ ثلاثةٌ : المنطقُ ، والنَّظرُ ، والصَّمتُ ، فمنْ كان منطقُه في غيرِ ذكرٍ فقد لغا، ومنْ كان نظرُه في غيْرِ اعتبارٍ فقدْ سها ، ومنْ كان صمْته في غيرِ فِكْرٍ فقد لها .
********************************************
اللهُ وليُّ الذين آمنُوا
العبدُ بحاجةٍ إلى إلهٍ ، وفي ضرورةٍ إلى مولىً ، ولابدَّ في الإلهِ من القُدرةِ والنُّصرةِ ، والحُكمِ ، والغنمِ ، والغناءِ والقوةِ ، والبقاءِ . والمُتَّصِفِ بذلك هو الواحدُ الأحدُ الملكُ المهيمنُ ، جلَّ في علاه .
فليس في الكائناتِ ما يسكُن العبدُ إليهِ ويطمئنُّ به ، ويتنعَّمُ بالتَّوجُّه إليه إلا اللهُ سبحانه ، فهو ملاذُ الخائفين ، ومعاذُ المُلجئِين ، وغوْثُ المستغيثين ، وجارُ المستجيرين : ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ ، ﴿ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ ، ﴿ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ ، ومنْ عبد غيْر اللهِ ، وإنْ أحبَّه وحصل له به مودَّةٌ في الحياةِ الدنيا ، ونوعٌ من اللَّذَّةِ – فهو مَفْسَدةٌ لصاحبه أعظمُ منْ مفسدةِ التذاذِ أكلِ الطعامِ المسمومِ ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ فإنَّ قوامهُما بأنْ تألها الإله الحقَّ ، فلو كان فيهما آلهةٌ غيرُ اللهِ ، لم يكنْ إلهاً حقّاً ، إذ اللهُ لا سمِيّ له ولا مِثْل له ، فكانتْ تفسُد ، لانتفاء ما به صلاحُها ، هذا من جهة الإلهية . فعُلِم بالضرورة اضطرار العبدِ إلى إلهِهِ ومولاهُ وكافِيهِ وناصرِه ، وهو اتِّصالُ الفاني بالباقي ، والضعيفِ بالقويِّ ، والفقيرِ بالغنيِّ ، وكلُّ منْ لم يتَّخِذ الله ربّاً وإلهاً ، اتَّخذ غيره من الأشياءِ والصورِ والمحبوباتِ والمرغوباتِ ، فصار عبداً لها وخادماً ، لا محالة في ذلك : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ ، ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ﴾ . وفي الحديثِ : (( يا حُصيْنُ ، كم تعبدُ ؟ )) قال : أعبدُ سبعةً ، ستةً في الأرضِ ، وواحداً في السماءِ . قال : (( فمنْ لِرغبِك ولِرهبِك ؟ )) . قال : الذي في السماءِ . قال : (( فاترُكِ التي في الأرضِ ، واعبُدِ الذي في السماءِ )) .
واعلمْ أنَّ فقر العبدِ إلى اللهِ ، أنْ يعبد الله لا يُشركُ به شيئاً ، ليس له نظيرٌ فيُقاسُ به ، لكنْ يُشبِهُ – منْ بعضِ الوجوهِ – حاجة الجسدِ إلى الطعامِ والشرابِ ، وبينهما فروقٌ كثيرةٌ .
فإنَّ حقيقة العبدِ قلبُه ورُوحُه ، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها اللهِ الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئنَّ في الدنيا إلا بذكْرِه ، وهي كادحةٌ إليه كدْحاً فمُلاقيتُه ، ولابُدَّ لها منْ لقائِه ، ولا صلاح لها إلا بلقائِهِ .
ومنْ لقاء اللهِ قد أحبَّا
كان له اللهُ أشدَّ حُبّا
وعكسُه الكارِهُ فالله اسألْ
رحْمتهُ فضلاً ولا تتكِلْ
ولو حصل للعبد لذَّاتٌ أو سرورٌ بغيرِ اللهِ ، فلا يدومُ ذلك ، بلْ ينتقلُ منْ نوع إلى نوع ، ومنْ شخصٍ إلى شخصٍ ، ويتنعَّمُ بهذا في وقتٍ وفي بعض الأحوالِ ، وتارةً أُخرى يكون ذلك الذي يتنعَّمُ به ويلتذُّ ، غير منعّمٍ لهُ ولا ملتذٍّ له ، بلْ قد يُؤذيهِ اتّصالُه به ووجودُه عنده ، ويضرُّه ذلك .
وأمّا إلههُ فلابُدَّ لهُ منه في كلِّ حالٍ وكلِّ وقتِ ، وأينما كان فهو معه .
عساك ترضى وكلُّ الناسِ غاضبةٌ
إذا رضيت فهذا مُنتهى أملي
وفي الحديثِ : (( منْ أرضى الله بسخطِ الناسِ ، رضي الله عليه ، وأرضى عنه الناس . ومنْ أسخط الله برضا الناس ، سخِط اللهُ عليه وأسخط عليهِ الناس )) . ولا زلتُ أذكرُ قصَّة (العكوَّك ) الشاعرِ وقدْ مدح أبا دلفٍ الأمير فقال :
ولا مددْت يداً بالخيرِ واهِبةً
إلاَّ قضيت بأرزاقٍ وآجالِ
فسلَّط اللهُ عليهِ المأمون فَقَتَلَه على بساطِهِ بسببِ هذا البيت ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ .
****************************************
ينبغي ألا تضيِّع صِحَّة جسمِك ، وفراغ وقتِك ، بالتقصيرِ في طاعةِ ربِّك ، والثِّقةِ بسالفِ عمِلك ، فاجعلْ الاجتهاد غنيمة صحَّتِك ، والعمل فرصة فراغِك ، فليس كلُّ الزمانِ مستعداً ولا ما فات مستدركاً ، وللفراغِ زيْغٌ أو ندمٌ ، وللخْلوةِ مَيْلٌ أو أسفٌ .
وقال عمرُ بنُ الخطابِ : الراحةُ للرجالِ غفْلةٌ ، وللنساءِ غُلْمةٌ .
وقال بزرجمهرُ : إنْ يكنِ الشغلُ مَجْهَدةً ، فالفراغُ مفْسدَةٌ .
وقال بعضُ الحكماءِ : إيَّاكمْ والخلواتِ ، فإنها تُفسدُ العقول ، وتعقِدُ المحلول .
وقال بعضُ البلغاءِ : لا تمضِ يومك في غير منفعةٍ ، ولا تضعْ مالك في غيْر صنيعةٍ ، فالعمرُ أقصرُ منْ ينفَدَ في غيرِ المنافعِ ، والمالُ أقلُّ منْ أنْ يُصرف في غيرِ الصانع ، والعاقلُ أجلُّ منْ أنْ يُفني أيامه فيما لا يعودُ عليه نفعُه وخيرهُ ، ويُنفق أموالهُ فيما لا يحصُل له ثوابُه وأجْرُه .
وأبلغُ منْ ذلك قولُ عيس ابن مريم ، على نبينا وعليه السلامُ : البرُّ ثلاثةٌ : المنطقُ ، والنَّظرُ ، والصَّمتُ ، فمنْ كان منطقُه في غيرِ ذكرٍ فقد لغا، ومنْ كان نظرُه في غيْرِ اعتبارٍ فقدْ سها ، ومنْ كان صمْته في غيرِ فِكْرٍ فقد لها .
********************************************
اللهُ وليُّ الذين آمنُوا
العبدُ بحاجةٍ إلى إلهٍ ، وفي ضرورةٍ إلى مولىً ، ولابدَّ في الإلهِ من القُدرةِ والنُّصرةِ ، والحُكمِ ، والغنمِ ، والغناءِ والقوةِ ، والبقاءِ . والمُتَّصِفِ بذلك هو الواحدُ الأحدُ الملكُ المهيمنُ ، جلَّ في علاه .
فليس في الكائناتِ ما يسكُن العبدُ إليهِ ويطمئنُّ به ، ويتنعَّمُ بالتَّوجُّه إليه إلا اللهُ سبحانه ، فهو ملاذُ الخائفين ، ومعاذُ المُلجئِين ، وغوْثُ المستغيثين ، وجارُ المستجيرين : ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ ، ﴿ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ ، ﴿ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ ، ومنْ عبد غيْر اللهِ ، وإنْ أحبَّه وحصل له به مودَّةٌ في الحياةِ الدنيا ، ونوعٌ من اللَّذَّةِ – فهو مَفْسَدةٌ لصاحبه أعظمُ منْ مفسدةِ التذاذِ أكلِ الطعامِ المسمومِ ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ فإنَّ قوامهُما بأنْ تألها الإله الحقَّ ، فلو كان فيهما آلهةٌ غيرُ اللهِ ، لم يكنْ إلهاً حقّاً ، إذ اللهُ لا سمِيّ له ولا مِثْل له ، فكانتْ تفسُد ، لانتفاء ما به صلاحُها ، هذا من جهة الإلهية . فعُلِم بالضرورة اضطرار العبدِ إلى إلهِهِ ومولاهُ وكافِيهِ وناصرِه ، وهو اتِّصالُ الفاني بالباقي ، والضعيفِ بالقويِّ ، والفقيرِ بالغنيِّ ، وكلُّ منْ لم يتَّخِذ الله ربّاً وإلهاً ، اتَّخذ غيره من الأشياءِ والصورِ والمحبوباتِ والمرغوباتِ ، فصار عبداً لها وخادماً ، لا محالة في ذلك : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ ، ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ﴾ . وفي الحديثِ : (( يا حُصيْنُ ، كم تعبدُ ؟ )) قال : أعبدُ سبعةً ، ستةً في الأرضِ ، وواحداً في السماءِ . قال : (( فمنْ لِرغبِك ولِرهبِك ؟ )) . قال : الذي في السماءِ . قال : (( فاترُكِ التي في الأرضِ ، واعبُدِ الذي في السماءِ )) .
واعلمْ أنَّ فقر العبدِ إلى اللهِ ، أنْ يعبد الله لا يُشركُ به شيئاً ، ليس له نظيرٌ فيُقاسُ به ، لكنْ يُشبِهُ – منْ بعضِ الوجوهِ – حاجة الجسدِ إلى الطعامِ والشرابِ ، وبينهما فروقٌ كثيرةٌ .
فإنَّ حقيقة العبدِ قلبُه ورُوحُه ، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها اللهِ الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئنَّ في الدنيا إلا بذكْرِه ، وهي كادحةٌ إليه كدْحاً فمُلاقيتُه ، ولابُدَّ لها منْ لقائِه ، ولا صلاح لها إلا بلقائِهِ .
ومنْ لقاء اللهِ قد أحبَّا
كان له اللهُ أشدَّ حُبّا
وعكسُه الكارِهُ فالله اسألْ
رحْمتهُ فضلاً ولا تتكِلْ
ولو حصل للعبد لذَّاتٌ أو سرورٌ بغيرِ اللهِ ، فلا يدومُ ذلك ، بلْ ينتقلُ منْ نوع إلى نوع ، ومنْ شخصٍ إلى شخصٍ ، ويتنعَّمُ بهذا في وقتٍ وفي بعض الأحوالِ ، وتارةً أُخرى يكون ذلك الذي يتنعَّمُ به ويلتذُّ ، غير منعّمٍ لهُ ولا ملتذٍّ له ، بلْ قد يُؤذيهِ اتّصالُه به ووجودُه عنده ، ويضرُّه ذلك .
وأمّا إلههُ فلابُدَّ لهُ منه في كلِّ حالٍ وكلِّ وقتِ ، وأينما كان فهو معه .
عساك ترضى وكلُّ الناسِ غاضبةٌ
إذا رضيت فهذا مُنتهى أملي
وفي الحديثِ : (( منْ أرضى الله بسخطِ الناسِ ، رضي الله عليه ، وأرضى عنه الناس . ومنْ أسخط الله برضا الناس ، سخِط اللهُ عليه وأسخط عليهِ الناس )) . ولا زلتُ أذكرُ قصَّة (العكوَّك ) الشاعرِ وقدْ مدح أبا دلفٍ الأمير فقال :
ولا مددْت يداً بالخيرِ واهِبةً
إلاَّ قضيت بأرزاقٍ وآجالِ
فسلَّط اللهُ عليهِ المأمون فَقَتَلَه على بساطِهِ بسببِ هذا البيت ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ .
****************************************