(رحلة لن تتكرر)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد ملؤ السماوات والأرض وملؤ ما بينهما وملؤ ما شئتَ من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ: لا مانع لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجد، منك الجدّ.
اللهم صل على سيدنا محمد بعدد قطر الأمطار، اللهم صل على سيدنا محمد بعدد رمل القفار، اللهم صل على سيدنا محمد بعدد ورق الأشجار، اللهم صل على سيدنا محمد كلما تعاقب الليل والنهار، اللهم صل على سيدنا محمد كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بـأن العـلم نـور ونور الله لا يهـْدى لعاصي
لهذا استقتْ جماعة (متطلعات للغد)من نهر ليقودهنّ إلى بحار ومحيطات العلم حيث اللاحدود للعَلل بعد النهل، وحتى لا تتعرضَ لهن الأرواح الشريرة في الرحلة، ها هنّ يركبـْن قويربـًا أبيضَ ناصعًا ظهره، أسود قاتمًا بطنه، يجمعهن بغي رضى المنان، وصفاء الأذهان، فمن خليج إلى مضيق، ومن نهر إلى محيط، فإذا بهن في إحدى البحار المفتوحة الكبيرة، ماؤه سلسبيل، غزير كالسيل، أخذن يبرِّقن بأبصارهنّ ـأي يدققن النظرـ حتى يرين حدوده لكن دون جدوى، قابلتـْهنّ لجنة الترحيب، يترأسها ربان على متن باخرةٍ منقوش عليها
حفيدة الخليل).صعدن الباخرة فأكرِمن، وطلبْن معرفة هذا المكان، أخبرهن الربان أنه بحر يسمى(العروض)، وأنه منبع لخمس بحيرات هي:1ـ المختلف والذي يروّي ثلاثة أنهار هي: الطويل والمديد والبسيط، 2ـ المؤتلف والذي يروي نهرين هما: الوافر والكامل، 3ـالمجتلب والذي يروّي ثلاثة أنهار هي: الهزج والرجز والرمل، 4ـ المتفق والذي يروّي نهرين هما:المتقارب والمتدارك، 5ـالمشتبه والذي يروي ستة أنهار وهي: السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث.عرض عليهن فكرة خوض غِمار هذا اليَمِّ حتى يستزدْن من خيراته الباطنية والظاهرية، فاشترطـْن ظلال ريادته الحكيمة،لتيقـُّنِهن من أنه ابن بَجْدَتهاـ أي العالم المتقن للشيءـ.
في ذاك التجوال شاهدْن زبدًا يبْرُش ـ أي يختلف لونه ـ ونسيمًا تتراقص منه انعكاسات ضوء الشمس على صفحة المياه القاصية، أخبرهن الربان أن هذا الزبد يدعى(السكنات)، والنسائم (المتحركات) وانعكاسات ضوء الشمس(الوحدات العروضية). ثم تابعْن التجوال لكن في الأعماق حيث برَقتْ أسارير وجوههن ـ من الدهشة والفرح ـ بمشاهدة كل تلك الروائع، فأسماك تبيض فتنهال حنانـًا على صغارها، وأسماك تلتهم أخرى، وحصان البحر كأنه العنود في قطيعها، وأفواه الأصداف المنطبقة خوفـًا على ثرياها، كل ذلك كان قطرة في بحر ما يكنـُّه هذا البحر الكريم، كما كان لكلٍّ ما يسمّى به، فالأسماك البائضة(علل الزيادة)، والملتهمة(علل النقص)، والصغار والفرائس(التفاعيل)، وحصان البحر(الروي المقيد)، والأصداف (الضرورات الشعرية)، والثريا(الأوزان الشعرية).
ثم عُدْن ليصافحن أشعة الشمس على السطح بعد أن زدْنَ احترامًا لهذا الربان الغـَمْر الرداء ـأي الكريم ـ .سألـْنه عن سر انتعاش فكره بذاك الكمِّ من المخزون العلمي؛ فأهداهن وصفة عجيبة، عبارة عن: دقيق الطموح، وقطرات من تحديد الهدف مع توابل من السعي وراء النجاح، تضاف إليها جرعة من تحدي الصعوبات ومقاومة الفشل للنكهة، ثم خلطها فتجفيفها وغربلتها لاستخراج ذرات اليأس، ثم طبخه على أعصاب هادئة؛ فنيل العلياء يحتاج إلى تروٍّ، ويؤخـَذ من الوصفة قدر الحلم المراد تحقيقه مرتين: قبل النوم وبعده.
خانهنّ الوقت، ودق ناقوس انقضائه، لم يكن بوسعهنّ سوى شكر الربان وطاقمه على تلك المبادرة اللطيفة بمرافقتهن في ذاك التجوال الرائع، والاعتذار عن أخذ وقتهم الثمين.
لكن المشكلة الآن: كيف يعدْن؟ أهداهنّ الربّان خريطة للذهاب والإياب تقودهن طيور الشهرمان، فغادرْن مودعات، غادرْن وهنّ يتحرَّقن شوقـًا للعودة، غادرن وكل ما وجدْنه يُعرَض لهن وكأنه شريط سينمائي يصمصم ـأي يمضي ويستمرـ في العرض، غادرْن وقد استفدْن كثيرًا من تجربتهن التي لن تتكرر أبدًا، استفدن من الربان الذي ألفيْنه حليمًا لا بالأملَد ولا بالصلـْد، قد رأى أن الإنسان قد خلِقَ ليُنجزَ شيئًا ما؛ فاشرأبَّ ـ أي تطلـَّعَ ـ اشرئبابًا نحو إبراز مكامن مكنونه الإبداعي ليستخلصها فينمّيَها ويصقلها، غادرْن وروح التعاون لا يزال يُغذّي نفوسهن الصغيرة كلما تذكّرن حصاد عملهن الجماعي، غادرْن وكلهن أمل أن يجعل الله بأيامهن القادمة خيرًا وبركة بما فيها من إحياء للنفوس والعقول، وبما فيها من إسهام لخدمة الوطن والمجتمع .....